فصل: تفسير الآيات (82- 85):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (82- 85):

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}
ولما دل كالشمس ميلهُم إلى المشركين دون المؤمنين على أنهم في غاية العداوة لهم، صرح تعالى بذلك على طريق الاستنتاج، فقال دالاً على رسوخهم في الفسق: {لتجدن أشد الناس} أي كلهم {عداوة للذين آمنوا} أي أظهروا الإقرار بالإيمان فكيف بالراسخين فيه {اليهود} قدمهم لأنهم أشد الفريقين لأنه لا أقبح من ضال على علم {والذين أشركوا} لما جمعهم من الاستهانة بالأنبياء هؤلاء جهلاً وأولئك عناداً وبغياً، فعرف أن من صدق في إيمانه لا يواليهم بقلبه ولا بلسانه، وأنهم ما اجتمعوا على الموالاة إلا لاجتماعهم في أشدّية العداوة لمن آمن، فهذه الآية تعليل لما قبلها، كأنه قيل: هب أنهم لا يؤمنون بالله والنبي، وذلك لا يقتضي موادة المشركين فلِمَ والوهم حينئذ؟ فقيل: لأن الفريقين اجتمعوا في أشدية العداوة للذين آمنوا.
ولما أخبر تعالى بأبعد الناس مودة لهم، أخبر بضدهم فقال: {ولتجدن أقربهم} أي الناس {مودة للذين آمنوا} أي أوجدوا الإيمان بالقلب واللسان {الذين قالوا} وفي التوريك على قولهم إشارة إلى أنهم ما كانوا على حقيقة النصرانية {إنا نصارى} أي لقلة اهتمامهم بالدنيا بمجرد قولهم ذلك ولو لم يكونوا عريقين في الدين وإقبالهم على علم الباطن، ولذلك علله بقوله: {ذلك بأن منهم قسيسين} أي مقبلين على العلم، من القس، وهو ملامة الشيء وتتبعه {ورهباناً} أي في غاية التخلي من الدنيا؛ ولما كان التخلي منها موجباً للبعد من الحسد، وهو سبب لمجانبة التكبر قال: {وأنهم لا يستكبرون} أي لا يطلبون الرفعة على غيرهم ولا يوجدونها.
ولما كان ذلك علة في الظاهر ومعلولاً في الباطن لرقة القلب قال: {وإذا سمعوا} أي أتباع النصرانية {ما أنزل إلى الرسول} أي الذي ثبتت رسالته بالمعجز، فكان من شأنه أن يبلغ ما أنزل إليه للناس {ترى أعينهم} ولما كان البكاء سبباً لامتلاء العين بالدمع وكان الامتلاء سبباً للفيض الذي حقيقته السيلان بعد الامتلاء، عبر بالمسبب عن السبب فقال: {تفيض من الدمع} أصله: يفيض دمعها ثم تفيض هي دمعاً، فهو من أنواع التمييز، ثم علل الفيض بقوله: {مما عرفوا من الحق} أي وليس لهم غرض دنيوي يمنعهم عن قبوله، ثم بين حالهم في مقالهم بقوله: {يقولون ربنا} أي أيها المحسن إلينا {آمنا} أي بما سمعنا {فاكتبنا}.
ولما كان من شأن الشاهد إحضار القلب وإلقاء السمع والقيام التام بما يتلى عليه ويندب إليه قال: {مع الشاهدين} أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة، فإن تقويتنا على ذلك ليست إلا إليك {وما} أي ويقولون: ما، أي أيّ شيء حصل أو يحصل {لنا} حال كوننا {لا نؤمن بالله} أي الذي لا كفوء له ولا خير إلا منه {وما} أي وبما {جاءنا من الحق} أي الأمر الثابت الذي مهما عرض على الواقع طابقه الواقع سواء كان حالاً أو ماضياً أو آتياً.
ولما كانوا يهضمون أنفسهم، عبروا بالطمع الذي لا نظر معه لعمل فقالوا: {ونطمع أن يدخلنا ربنا} أي بمجرد إحسانه، لا بعمل منا، ولجريهم في هذا المضمار عبروا بمع دون في قولهم: {مع القوم الصالحين} هضماً لأنفسهم وتعظيماً لرتبة الصلاح.
ولما ذكر قولهم الدال على حسن اعتقادهم وجميل استعدادهم، ذكر جزاءهم عليه فقال: {فأثابهم الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {بما قالوا} أي جعل ثوابهم على هذا القول المستند إلى خلوص النية الناشئ عن حسن الطوية {جنات تجري} ولما كان الماء لو استغرق المكان أفسد، أثبت الجار فقال: {من تحتها الأنهار} ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال: {خالدين فيها}.
ولما كان التقدير: لإحسانهم، طرد الأمر في غيرهم فقال: {وذلك} أي الجزاء العظيم {جزاء المحسنين} أي كلهم، واختلفوا في هذه الواقعة بعد اتفاقهم على أنها في النجاشي وأصحابه، وذلك مبسوط في شرحي لنظمي للسيرة النبوية، فمن ذلك أنه لما قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من مهاجرة الحبشة مع أصحابه رضي الله عنهم قدم معهم سبعون رجلاً بعثهم النجاشي رضي الله عنه وعن الجميع وفداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، وهم بحيرا الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى! فأنزل الله فيهم هذه الآية {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا} [المائدة: 82]- إلى آخرها، ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول بغير سند، ثم أسند عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً} [المائدة: 82] قال: بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيار أصحابه ثلاثين رجلاً، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يس فبكوا، فنزلت فيهم هذه الآية. وإذا نظرت مكاتبات النبي صلى الله عليه وسلم للملوك ازددت بصيرة في صدق هذه الآية، فإنه ما كاتب نصرانياً إلا آمن، أو كان ليناً ولو لم يسلم كهرقل والمقوقس وهوذة بن علي وغيرهم، وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم، وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه صلى الله عليه وسلم ولم يجز رسوله بشيء، وأما اليهود فكانوا جيران الأنصار ومواليهم وأحبابهم، ومع ذلك فأحوالهم في العداوة غاية، كما هو واضح في السير، مبين جداً في شرحي لنظمي للسيرة، وكان السر في ذلك- مع ما تقدم من باعث الزهد- أنه لما كان عيسى عليه السلام أقرب الأنبياء زمناً من زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان المنتمون إليه ولو كانوا كفرة أقرب الأمم مودة لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى ذلك يشير ما رواه الشيخان في الفضائل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، الأنبياء أولاد علات- وفي رواية: أبناء، وفي رواية: إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وليس بيني وبينه، وفي رواية: وليس بيني وبين عيسى- نبي.
وفي رواية لمسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة، قالوا: كيف يا رسول الله! قال: الأنبياء إخوة من علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، فليس بيننا نبي».

.تفسير الآيات (86- 87):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}
ولما ذكر سبحانه وتعالى جزاء المطيعين المبادرين إلى الإذعان ترغيباً، ذكر جزاء من لم يفعل فعلهم ترهيباً فقال: {والذين كفروا} أي ستروا ما أوضحته له عقولهم من الدلالة على صحة ما دعتهم إليه الرسل {وكذبوا} أي عناداً {بآياتنا} أي بالعلامات المضافة لعظمها إلينا {أولئك} أي البعداء من الرحمة {أصحاب الجحيم} أي الذين لا ينفكون عنها، لا غيرهم من العصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم.
ولما مدح سبحانه الرهبان، وكان ذلك داعياً إلى الترهب، وكانت الرهبانية حسنة بالذات قبيحة بالعرض، شريفة في المبدأ دنية في المآل، فإنها مبنية على الشدة والاجتهاد في الطاعات والتورع عن أكثر المباحات، والإنسان مبني على الضعف مطبوع على النقائص، فيدعوه طبعه ويساعده ضعفه إلى عدم الوفاء بما عاقد عليه، ويسرع بما له من صفة العجلة إليه، فيقع في الخيانة كما قال تعالى: {فما رعوها حق رعايتها} [الحديد: 27] عقب ذلك بالنهي عنها في هذا الدين والإخبار عنه بأنه بناه على التوسط رحمة منه لأهله ولطفاً بهم تشريفاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن الإفراط فيه والتفريط فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي وجد منهم الإقرار بذلك {لا تحرموا} أي تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غيرهما تصديقاً لما أقررتم به، ورغبهم في امتثال أمره بأن جعله موافقاً لطباعهم ملائماً لشهواتهم فقال: {طيبات ما} أي المطيبات وهي اللذائذ التي {أحل الله} وذكر هذا الاسم الأعظم مرغب في ذلك، فإن الإقبال على المنحة يكون على مقدار المعطي، وأكد ذلك بقوله: {لكم} أي وأما هو سبحانه فهو منزه عن الأغراض، لا ضر يلحقه ولا نفع، لأن له الغنى المطلق.
ولما أطلق لهم ذلك، حثهم على الاقتصاد، وحذرهم من مجاوزة الحد إفراطاً وتفريطاً فقال: {ولا تعتدوا} فدل بصيغة الافتعال على أن الفطرة الأولى مبنية على العدل، فعدولها عنه لا يكون إلا بتكلف، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لاستبعاد أن ينهى عن الإمعان في العبادة: {إن الله} أي وهو الملك الأعظم {لا يحب المعتدين} أي لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت، ولا للمفرطين فيه الذين يحللون ما حرمت، أي يفعلون فعل المحرم من المنع وفعل المحلل من التناول، وما ذكر من سبب نزول الآية واضح في ذلك؛ روى الواحدي في أسباب النزول بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء وإني حرمت عليّ اللحم، فنزلت: {لا تحرموا ما أحل الله لكم} ونزلت: {وكلوا مما رزقكم الله} [المائدة: 88]. وأخرجه الترمذي في التفسير من جامعه وقال: حسن غريب، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً. وقال الواحدي: وتبعه عليه البغوي: قال المفسرون: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف فرق الناس وبكوا، فاجتمع عشرة من الصحابة رضي الله عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وهم أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبّوا المذاكير؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله! وما أردنا إلا الخير، فقال: إني لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا. وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، ومن رغب عن سنتي فليس مني؛ ثم جمع الناس فخطبهم فقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا! أما! إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع» فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله! فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة: 89، والبقرة: 225]، ولا تعارض بين الخبرين لإمكان الجمع بأن يكون الرجل لما سمع تذكير النبي صلى الله عليه وسلم سأل، ولو لم يجمع صح أن يكون كل منهما سبباً، فالشيء الواحد قد يكون له أسباب جمة، بعضها أقرب من بعض، فمن الأحاديث الواردة في ذلك ما روى البغوي بسنده من طريق ابن المبارك في كتاب الزهد عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذن لنا في الاختصاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من خصي ولا اختصى، إن خصاء أمتي الصيام، فقال: يا رسول الله! ائذن لنا في السياحة، فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله. فقال: يا رسول الله! ائذن لنا في الترهب، فقال: إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً لصلاة» وللشيخين والترمذي والنسائي والدارمي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أيضاً قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أذن له-وفي رواية: ولو أجاز له- التبتل لاختصينا، وللدارمي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أيضاً قال: لما كان من أمر عثمان بن مظعون رضي الله عنه الذي كان ممن ترك النساء بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عثمان! إني لم أومر بالرهبانية، أرغبت عن سنتي؟ قال: لا يا رسول الله! قال: إن من سنتي أن أصلي وأنام وأصوم وأطعم وأنكح وأطلق، فمن رغب عن سنتي فليس مني، يا عثمان! إن لأهلك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، قال سعد: فوالله لقد كان أجمع رجال من المؤمنين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هو أقر عثمان على ما هو عليه أن نختصي فنتبتل» وقال شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف: وروى الطبراني من طريق ابن جريج عن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ومن طريق ابن جريج عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالماً مولى أبي حذيفة في جماعة رضي الله عنهم تبتلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا» وللترمذي عن سمرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل.
وقرأ قتادة: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} وللنسائي عن عائشة رضي الله عنها نحوه وأشار إليه الترمذي. وللطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً. يقول: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» ومنها ما روى الشيخان عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء- وفي رواية: نساء، وفي رواية: كنا ونحن شباب فقلنا: يا رسول الله! ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا عبد الله {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}» الآية.
ومنها ما روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله! إني رجل شاب، وإني أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء- قال النسائي: أفاختصي- فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر- وقال النسائي: أو دع» ومنها ما روى الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية مسلم والنسائي أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً؛ وفي رواية: وقال بعضهم لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام كذا وكذا! وفي رواية: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له! لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» والمبهمون في الحديث- قال شيخنا في مقدمة شرحه للبخاري- هم ابن مسعود وأبو هريرة وعثمان بن مظعون، وسيأتي مفرّقاً ما يشير إلى ذلك، يعني ما قدمته أنا، قال: وقيل: هم سعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب، وفي مصنف عبد الرزاق من طريق سعيد بن المسيب أن منهم علياً وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وقال شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف: إن هذا أصلُ ما رواه الواحدي عن المفسرين، وللشيخين والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»، وفي رواية: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» ولأبي داود عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم» وللإمام أحمد في المسند عن أنس رضي الله عنه والحاكم في علوم الحديث في فن الغريب- وهذا لفظه- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض عبادة الله إليك، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى» المتين: الصلب الشديد، والإيغال: المبالغة، والمنبت- بنون وموحدة وفوقانية مشددة هو الذي انقطع ظهره، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا» وفي بعض الروايات: «والقصد القصد تبلغوا» ولمسلم وابن ماجه- وهذا لفظه- عن حنظلة الكاتب التميمي الأسيدي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا الجنة والنار حتى كانا رأي العين، فقمت إلى أهلي وولدي فضحكت ولعبت، قال: فذكرت الذي كنا فيه، فخرجت فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: نافقت نافقت! فقال أبو بكر: إنا لنفعله، فذهب حنظلة فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا حنظلة! لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو على طرقكم، يا حنظلة! ساعة وساعة» ولفظ مسلم من طرق جمعت متفرقها عن حنظلة-وكان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كانا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً، قال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وساعة ثلاث مرات» وفي رواية: قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكرنا النار وفي رواية: الجنة والنار، ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة! فقال: مه؟ فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: «يا حنظلة! ساعة وساعة، فلو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق» ومن هنا تبين لك مناسبة أول المجادلة لآخر الحديد التي كاع في معرفتها الأفاضل، وكع عن تطلبها لغموضها الأكابر الأماثل، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك وإيضاح ما فيه من لطيف المسالك، ومن هذه الآية وقع الالتفات إلى قوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} [الأنعام: 1] وقوله تعالى: {قل أحل لكم الطيبات} [المائدة: 4] وما أحسن تصديرها بيا أيها الذين آمنوا- كما صدر أول السورة به، وقد مضى بيان جميع ما مضى في الوفاء بالعقود، فكان كأنه تعالى قال: أوفوا بالعقود، فلا تتهاونوا بها فتنقضوها، ولا تبالغوا فيها فتكونوا معتدين فتضعفوا، فإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، بل سددوا وقاربوا، والقصد القصد تبلغوا، وقال ابن الزبير بعد قوله: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم} [المائدة: 14] ثم فصل للمؤمنين أفعال الفريقين- أي اليهود والنصارى- ليتبين لهم فيما نقضوا، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة فقال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة} [المائدة: 82]. ثم نصح عباده وبين لهم أبواباً منها دخول الامتحان، وهي سبب في كل الابتلاء، فقال: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} [المائدة: 87] فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم شارعين لأنفسكم وظالمين- انتهى. و{ما أحل} شامل لكل ما كانوا أرادوا أن يتورعوا عنه من المآكل والملابس والمناكح والنوم وغير ذلك.